المتوكّل
ضوء خافت ينبعث من فانوس مغبرّ لا يكاد يجلّي ظلمة الغرفة و الشّبح الممدّد على سرير مترهّل كثرت رضوضه. السّاعة تقترب من الفجر .تقلّب على جنبيه . لم يكحّل النوم جفنيه. مرّ أمام عينيه شريط حياته الأسود واضحا وضوح الشّاشات الملوّنة. "المتوكّل"... اختار له أبوه هذا الاسم تيّمنا ، و قبل أن يلعب القدر لعبته الأثيرة أوصاه خيرا بعائلته. ثم نام نومته الأبدية قرير العين. تسلّلت هبّة ريح إلى مجثمه . سعل سعلتين أطارت تباشير النوم. دار على جنبه الأيمن . لمح وتدا مغروزا في الزاوية العليا فالتمعت عيناه. تذكّر كيف قلبت له الدّنيا ظهر المجنّ. عاش فقيرا يتسكّع بين نكبات البؤس و خطوب الحرمان. تذكّر كيف اضطرّت أمّه إلى الاستعطاء لتوفير لقمة العيش. رعشة اشمئزاز سرت في كامل جسده الواهي و هو ينظر في تقاسيم وجوههم عبر نافذة الذّكرى إلى معاني الرّحمة و الشفقة ، فلا يجد سوى الاحتقار و الإهانة . كرة الثّلج تتدحرج في فكره، تكبر و تكبر، تكاد تسحقه ، و منادٍ ينادي في أعماق أعماقه أن أَقبِلْ ... أَقبِلْ .. هنا الخلود هنا الرَّوْح و الرّيحان. و لأمر ما اتّكأ على يديه ، و جلس على حافة السّرير. نظر من الناّفذة فرأى الشّفق الأحمر يطلّ رويدا رويدا. أعاد بصره إلى الغرفة . أجال بصره في كل تفاصيلها و كأنّه يراها أول مرّة. تسمّر بصره عند رؤية الوتد هنيهة. وخزته الذّكرى. تجوّل بين دكاكين الحيّ و الأحياء المجاورة كثيرا. " لا نحتاج عمّالا ، فالأزمة خانقةٌ كما تعلم" كم سمع هذه الجملة المقيتة. حفظها، مجّها ، و لكن مجّ نفسه أيضا. سُدّت أبواب الرّزق في وجهه . حاول كثيرا . حاول ، و لكنّ كلكل الدنيا أناخ عليه فسحق منه التحمّس. نهض من على السّرير، فصرّ صريرا الموت و الفناء. مشى خطوات. توقف عند الزاوية . جذب إليه بقايا كرسيّ و بقايا حبل. جاهد ليصعد . ربط الحبل بإحكام. بضع دقائق . انتهت المهمّة.
أشعّة الشمس تتسلّل من النافذة تطهّر المكان من العفن ،عفن الأفكار . و ألفينا الشّبح واضح الملامح يتخطّى عتبة الباب آمّا المشرق بعد أن علّق بقايا أغراضه في الوتد ،سيفه الإصرار و ترسه التوكّل. لقد قرّر البحث عن الرّزق في المدينة المجاورة و قد يطول غيابه.
بقلم الطيب جامعي
قصة قصيرة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق